بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ
وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ " {3} يوسف
"لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ " {111} سورة يوسف
قصة أصحاب الجنة
موقع القصة في القرآن الكريم :
ورد ذكر القصة في سورة. قال الله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ {17} وَلَا يَسْتَثْنُونَ{18} فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ {19} فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ {20}فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ {21} أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ {22} فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ {23} أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ {24} وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ {25}فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ {26} بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ {27} قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ {28} قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ {29} فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ {30} قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ{31} عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ {32} كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ {33} سورة القلم وهذا مثل ضربه الله لكفار قريش ، فيما أنعم به عليهم من إرسال الرسول العظيم الكريم إليهم، فقابلوه بالتكذيب والمخالفة ، كما قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ {28} جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ {29} سورة إبراهيم .القصة :
قال إبن عباس: إنه كان شيخ كانت له جنة، وكان لا يدخل بيته ثمرة منها ولا إلى منزله حتى يعطي كل ذي حق حقه. فلما قبض الشيخ وورثه بنوه -وكان له خمسة من البنين- فحملت جنتهم في تلك السنة التي هلك فيها أبوهم حملاً لم يكن حملته من قبل ذلك، فراح الفتية إلى جنتهم بعد صلاة العصر.فأشرفوا على ثمرة ورزق فاضل لم يعاينوا مثله في حياة أبيهم. فلما نظروا إلى الفضل طغوا وبغوا، وقال بعضهم لبعض: " إن أبانا كان شيخا ًكبيرا ًقد ذهب عقله وخرف ، فهلموا نتعاهد ونتعاقد فيما بيننا أن لا نعطي أحدا من فقراء المسلمين في عامنا هذا شيئا ، حتى نستغني وتكثر أموالنا، ثم نستأنف الصنعة فيما يستقبل من السنين المقبلة "، فرضي بذلك منهم أربعة ، وسخط الخامس وهو الذي قال فيه سبحانه وتعالى : " قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ".فقال لهم أوسطهم : " اتقوا الله وكونوا على منهاج أبيكم تسلموا وتغنموا "، فبطشوا به، فضربوه ضربا ًمبرحا ً. فلما أيقن الأخ أنهم يريدون قتله دخل معهم في مشورتهم كارهاً لأمرهم ، غير طائع ، فراحوا إلى منازلهم ثم حلفوا بالله أن يصرموه إذا أصبحوا، ولم يقولوا إن شاء الله .فابتلاهم الله بذلك الذنب ، وحال بينهم وبين ذلك الرزق الذي كانوا أشرفوا عليه. [تفسير القمي،ج2،ص381].إنها سُنة إلهية :
ولعل في القصة إشارة إلى أن الله تعالى أجرى نفس السُنة على المترفين أو طالهم منه شيء من العذاب في الدنيا ، وفي رواية أبي الجارود عن الإمام الباقر عليه السلام تأكيد لذلك ، اذ قال : (إن أهل مكة أبتلوا بالجوع كما أبتلي أصحاب الجنة).فهذه السنة تنطبق على كل من تشمل الآيات التالية : { َلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ {10}هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ {11} مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ{12} عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ {13} أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ {14} إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ {15} سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ {16}سورة القلم.بعد ذلك يقول ربنا عز وجل: { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ }.أي اختبرناهم بالثروة بمثل ما اختبرنا أصحاب المزرعة. ومادامت السُنن الإلهية في الحياة واحدة ، فيجب إذن أن يَعّتبر الإنسان بالآخرين ، سواء المعاصرين له أو الذين سبقوه ، وأن يعيش في الحياة كتلميذ ، لأنها مدرسة وأحداثها خير معلم لمن أراد وألقى السمع وأعمل الفكر وهو شهيد .
بهذه الهدفية يجب أن نطالع القصص ونقرأ التاريخ ، فهذه قصة أصحاب الجنة يعرضها الوحي لتكون أحداثها ودروسها موعظة وعبرة للإنسانية .ومن الملفت للنظر : إن القرآن في عرضه لهذه القصة لا يحدثنا عن الموقع الجغرافي للجنة ، هل كانت في اليمن أو في الحبشة ، ولا عن مساحتها ونوع الثمرة التي أقسم أصحابها على صرمها .. لأن هذه الأمور ليست بذات أهمية في منهج الوحي ، إنما المهم المواقف والمواعظ والأحداث المعبرة ، سواء فصل العرض أو أختصر.ومكروا ومكر الله :
فأشار القرآن إلى أنهم كيف أقسموا على قطف ثمار مزرعتهم دون إعطاء الفقراء شيئا ًمنها ، وتعاهدوا على ذلك ، ولكن هل فلحوا في أمرهم ..؟ كلا.. { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ {19} فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ{20} .إن الله الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ، ما كان ليغفل عن تدبير خلقه، وإجراء سُننه في الحياة ، فقد أراد أن يجعل آية تهديهم إلى الإيمان به والتسليم لأوامره بالإنفاق على المساكين وإعطاء كل ذي حق حقه،وأن يعلم الإنسان بأن الجزاء حقيقة واقعية ، وإنه نتيجة عمله .وهكذا يواجه مكر الله مكر الإنسان ، فيدعه هباء منثورا ، { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } سورة آل عمران54. وإذا استطاعوا أن يخفوا مكرهم عن المساكين ، فهل استطاعوا أن يخفوه عن عالم الغيب والشهادة ؟ كلا .. وقد أرسل الله تعالى طائفة ليثبت لهم هذه الحقيقة: {فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ {21} أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ {22} فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ {23} أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ {24} وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ {25}فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ {26} بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ {27} القلم .في تلك اللحظة الحرجة اهتدوا إلى أن الحرمان الحقيقي ليس قلة المال والجاه ، وإنما الحرمان والمسكنة قلة الإيمان والمعرفة بالله .وهكذا أصبح هذا الحادث المريع بمثابة صدمة قوية أيقظتهم من نومة الضلال والحرمان ، وصار بداية لرحلة العروج في آفاق التوبة والإنابة ، والتي أولها اكتشاف الإنسان خطئه في الحياة.ومن هنا نهتدي إلى أن من أهم الحِكم التي وراء أخذ الله الناس بالبأساء والضراء وألوان من العذاب في الدنيا ، هو تصحيح مسيرة الإنسان بإحياء ضميره وإستثارة عقله من خلال ذلك ، كما قال ربنا عز وجل: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} سورة الأنعام42 .قصة تستحق التأمل :
فما أحوجنا أن نتأمل قصة هؤلاء الإخوة الذين اعتبروا بآيات الله ، وراجعوا أنفسهم بحثا ًعن الحقيقة لما رأوا جنتهم وقد أصبحت كالصريم ، فنغير من أنفسنا ليغير الله ما نحن فيه ، إذ ما أشبه تلك الجنة وقد طاف عليها طائف من الله بحضارتنا التي صرمتها عوامل الإنحطاط والتخلف ولو أنهم استمعوا إلى نداء المصلحين لما ابتلوا بتلك النهاية المريعة ، وهكذا كل أمة لا تفلح إلا إذا عرفت قيمة المصلحين ، فاستمعت إلى نصائحهم ، واستجابت لبلاغهم وإنذارهم .لهذا الدور تصدى أوسط أصحاب الجنة ، فعارضهم في البداية حينما أزمعوا وأجمعوا على الخطيئة ، وذكرهم لما أصابهم عذاب الله بالحق ، وحملهم كامل المسؤولية ، وإستفاد من الصدمة التي أصابتهم في إرشادهم إلى العلاج الناجع.{ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} من هذا الموقف نهتدي إلى بصيرة هامة ينبغي لطلائع التغيير الحضاري ورجال الإصلاح أن يدركوها ويأخذوا بها في تحركهم إلى ذلك الهدف العظيم ، وهي : إن المجتمعات والأمم حينما تضل عن الحق وتتبع النظم البشرية المنحرفة ، تصير إلى الحرمان ، وتحدث في داخلها هزة عنيفة (صحوة) ذات وجهين ، أحدهما القناعة بخطأ المسيرة السابقة ، والآخر البحث عن المنهج الصالح. وهذه خير فرصة لهم يعرضوا فيها الرؤى والأفكار الرسالية ، ويوجهوا الناس اليها.من هذه الفرصة استفاد أوسط أصحاب الجنة ، بحيث حذر أخوته من أخطائهم، وأرشدهم إلى سبيل الصواب.{ َقالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ {29}فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ{30} قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ {31} عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ {32}سورة القلموقصة هؤلاء شبيه بقوله تعالى: { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ {112} وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ {113}سورة النحل . قيل : هذا مثل مضروب لأهل مكة ، وقيل :هم أهل مكة أنفسهم ، ضربهم مثلا لأنفسهم ، ولا ينافي ذلك .
والله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم.
تعليقات
إرسال تعليق